حياة الرواد عادة ما تكتنز بالكثير من الحكايات والعبر والعظات والمنعطفات الباعثة على التدبر والتأمل وتخيل أزمنة لم نعشها وأماكن لم نرها وظروف لم نكابدها. من رواد الفكر والشعر والصحافة الكبار في المملكة العربية السعودية ممن تنطبق عليهم هذه المقدمة الرمز الثقافي والقامة الأدبية السامقة الأستاذ سعد البواردي الذي تم تكريمه في مهرجان الجنادرية 29 في عام 2014، وقلده الملك سلمان بن عبدالعزيز في فبراير من العام نفسه وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى تقديرا لنشاطه الأدبي والثقافي على مدى 60 عاما ونيفا من عمره.
حينما يتوغل المرء في سيرة البواردي يكتشف بسهولة أن التكريم كان مستحقا، وأنّ الوسام الرفيع كان بمثابة إعادة اعتبار للرجل الذي ظلم في بدايات حياته حينما دخل بلاط صاحب الجلالة بحماس الشباب وعنفوانه، ناقدا ما حوله في زمن إقليمي مضطرب لم يكن النقد الحاد فيه ملائما أو مستحبا. والحقيقة أنه لا يمكن لمن يريد التأريخ لإرهاصات الحركة الصحفية في السعودية عموما، وفي منطقتها الشرقية خصوصا أن يتجاوز اسم البواردي أو أن يقلل من قيمة إسهاماته. فلئن كان يوسف الشيخ يعقوب وأخوه أحمد (ولدا قاضي الجبيل الأسبق ومدير أولى مدارسها الشيخ يعقوب بن الشيخ يوسف آل إبراهيم البصري التميمي رحمه الله) هما من تصديا لفكرة إطلاق أول جريدة من مدينة الدمام في مارس 1955، واختارا لها اسم «الفجر الجديد» اتساقا مع ما كان يعتمل في النفوس آنذاك من بدء حقبة النهضة والبناء - من بعد حقبة التوحيد - على يد العاهل الجديد المغفور له الملك سعود رحمه الله، فإن أحد الأسماء التي داومت على الكتابة في هذه المطبوعة، من خلال تزويدها بالقصائد الوطنية الحماسية، منذ عددها الأول وحتى عددها الرابع الذي طبع ولم يوزع جراء إيقافها من قبل السلطات المعنية لنبرتها الحادة وصراحتها غير المألوفة في تناول الشأن الداخلي، هو سعد البواردي الذي لم تقل آلامه عن أحزان وجراح الأخوين يعقوب وقد انهار حلمهما، بل ودخلا المعتقل أيضا.
بعد ما حلّ بـ «الفجر الجديد» قام البواردي بتشجيع من يوسف الشيخ يعقوب بتحقيق فكرة إطلاق مجلة ثقافية شهرية من الخبر. كان البواردي يعمل وقتذاك موظفا في قسم قطع غيار السيارات لدى شركة عبداللطيف علي العيسى بالخبر، وليست لديه دراية كافية بإدارة مجلة من هذا النوع، وإنْ كان مطلعا ويهوى الكتابة الصحفية ونظم الشعر، كما لم تكن لديه الأموال الكافية والكوادر المدربة للاضطلاع بهذه المهمة الشاقة. لكنه بعد تفكير طويل مشوب بالحيرة والتساؤلات، وبعد أن هرش رأسه أكثر من مرة، وعقد الخنصر والبنصر، توكل على الله ووافق على الفكرة لأن «عالمنا العربي كان يعيش حالة مخاض سياسي، وتحولات تاريخية. كانت الأجواء مشحونة ملتهبة. صراع حاد بين الاحتلال والاستقلال في أكثر من مكان. وكان الصوت مرتفعاً ولاسعاً على مستوى عالمنا العربي ونحن جزء منه نتفاعل مع قضاياه وأحداثه»، على حد قوله في خطاب أرسله من القاهرة إلى أستاذنا محمد عبدالرزاق القشعمي، ونشر الأخير نصه في مجلة الواحة (العدد 60، سنة 2010) تحت عنوان «سعد البواردي ومجلة الإشعاع».
وهكذا تقدم إلى السلطات بطلب الحصول على ترخيص لإصدار المجلة المذكورة تحت عنوان «الاشعاع»، فجاءته الموافقة سريعا، وهو من جانبه تدبر أموره بسرعة، حيث راح ينفق على المجلة نصف راتبه الضئيل، وتولى كل مهامها بمفرده. وعليه صدر العدد الأول من مجلة الاشعاع في حجم صغير (48 صفحة) وطباعة متواضعة لدى المطابع السعودية بالدمام لصاحبها الأديب الشاعر خالد الفرج الدوسري، وعدد قليل من المقالات التي آثر أصحابها الترميز لأسمائهم (مثل س. ب، أبو سمير، أبو نازك، فتى الوشم، الخ الخ) بدلا من التصريح بها. لكن الوضع راح يتحسن رويدا رويدا حجما ومقاسا، بل راح لسان المجلة يكثر من اللسع الذي جعل البعض يتصيد لتجاوزاتها ويبلغها لولاة الأمر.
استقطبتْ مجلة «الاشعاع» بعد صدورها الكثير من الكتاب من مختلف أنحاء المملكة (الشاعر الأمير عبدالله الفيصل والشاعر المجدد محمد حسن عواد، وإبراهيم العواجي وصالح الصالح ومحمد المسيطير مثلا)، وفتحت أبوابها للمبتدئين من الأقلام الشابة. لكن تم إيقافها بعد عددها الثالث والعشرين في مايو 1957، وكانت وقتها قد أكملت السنتين ودلفت إلى الثالثة. حول المتسبب في إيقافها كتبت صحيفة الاقتصادية (1/5/2009) على لسان البواردي: «صديق وزميل يعمل في حقل الأدب (المرحوم الشيخ عبدالرحمن القويز) كان السبب.. صاحبنا حمل العدد الثالث والعشرين من مجلة «الاشعاع» الصادر في شهر ذي القعدة عام 1376هـ إلى المرحوم الأمير عبدالله بن عبدالرحمن واضعا إصبعه على الدمل، كما يعتقد، قائلا لسموه (انظر ماذا يقول سعد البواردي عن.. وعن...). وهنا ثارت ثائرة سموه وفي حضرة من المرحوم الملك سعود توسعت دائرة الإشكال والسؤال والمساءلة. في الهجيع الأخير من الليل كان الطارق على الباب، وكانت الضيافة، التي أشهد أنها كريم تعاملها وتداولها باستثناء أسبوعها الأول الذي كنت فيه أناجي السقف والنوافذ الموصدة والأرض العارية. شهران وبضعة أيام. كان أمامي الخيار الصعب، أن أظل داخل ضيافتي أو أن أعود إلى مسقط رأسي لمدة عام جزاء لي على سلاطة اللسان وردعا لأمثالي...».
وهكذا خيّر الرجل بين أنْ يبقى في السجن يناجي الأبواب الموصدة أو أن يذهب إلى مسقط رأسه في مدينة شقراء النجدية تحت الإقامة الجبرية لمدة سنة، فاختار الخيار الثاني، تاركا مجلة «الاشعاع» خلف ظهره، ذكرى تجترها الأجيال عن بدايات الصحافة في شرق السعودية، وواصفا إياها بأنها «لفظت أنفاسها حين عاندت، فعانت من عنادها ما تستحق».
ولد سعد البواردي في عام 1920م بمدينة شقراء حاضرة إقليم الوشم، ابنا لأمير المدينة وأحد شعرائها المعروفين، عبدالرحمن بن محمد البواردي، المنحدر من عشيرة البواريد من قبيلة بني زيد التي تعود إلى قبيلة عبيدة من مذحج من كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وكان والده معروفا بالكرم على عادة أهل شقراء الذين قال عنهم الرحالة أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب (الجزء الثاني ص 116): «هم على كرمهم ودماثة أخلاقهم متواضعون، ينحرون لك، ويمدون سماطاً ملكياً، ثم يقولون: ما عندنا في نجد غير فاكهتين الماء البارد في القيظ والنار في الشتاء». تلقى دراسته الابتدائية في مدارس عنيزة وشقراء، ثم التحق بمدرسة دار التوحيد (الإعدادية) بالطائف التي فصلته بعد أن أكمل بها سنتين من الدراسة، انقطع بعدهما عن التعليم، ليخوض مبكرا معركة الحياة العملية والتثقيف الذاتي. وبهذا نستطيع أن نقول إن الرجل لم يبحث قط عن الشهادة بقدر ما بحث عن العلم والمعرفة، بدليل أنه لا يجد غضاضة في القول بأنه لا يحمل إلا ثلاث شهادات هي: شهادة الميلاد، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وشهادة المرحلة الابتدائية، وأنه مجرد طالب مبتدئ في مدرسة الحياة. كما أنه لم يبحث قط عن الجاه والوجاهة بقدر ما بحث عن الصدارة في ميدان الأدب والفكر، وآية ذلك أن ظروف الحياة تقلبت به وحملته مسؤوليات أكبر من سنه حينما توفي والده واضطر أن يحل مكانه كمعيل للأسرة، وهو ما جعله يمتهن مهنا مختلفة ويتنقل من مدينة إلى أخرى. فقد عمل بائعا للبطيخ في إحدى الفترات، ثم انتقل من نجد إلى الأحساء حيث اشتغل كعامل ميزان فإلى الخبر التي عمل بها موظفا في أحد مكاتب التجار ثم بائعا لقطع غيار السيارات لدى شركة العيسى، قبل أن يدخل ميدان الصحافة من «نافذة الصدفة». نعم من «نافذة الصدفة» طبقا لشهادته التي نشرها أستاذنا محمد عبدالرزاق القشعمي في كتابه «البدايات الصحفية في المملكة العربية السعودية» (منشورات مركز حمد الجاسر الثقافي/ الرياض/1900) والتي جاء فيها: «أعترف بادئ ذي بدء أنني ولجت إلى دار الكلمة والحرف من النافذة، ولعلها الصدفة المحضة. لم أكن يومها مهيأ نفسيا ولا عمليا أن أتعامل معها. كنت أسير أسرة قطع غيار السيارات لدى الشيخ الكريم عبداللطيف العيسى في مدينة الخبر. كان هذا هو قدري ومحطتي في كسب العيش والرزق. كانت مفرداتي أسرتي الوظيفية لا تتجاوز حدود (الكاربريتر والراديتر، الدينمو، الديلكو، البواجي، البوبينة، الشكمان، والدواليب».
لكن ماذا حلّ بالبواردي بعد نفيه من الخبر إلى شقراء؟
اضطر الرجل أن ينفذ العقاب الصادر بحقه بالبقاء إجباريا في شقراء لمدة سنة. بعدها ذهب إلى الرياض بحثا عن وظيفة يقتات منها، فعثر على وظيفة بوزارة المعارف. وبسبب خبرته الصحفية أوكلت إليه عملية الإشراف على «مجلة المعرفة» الفصلية الصادرة عن الوزارة. بعد ذلك عمل مديرا لإدارة العلاقات العامة بوزارة المعارف، ثم تولى سكرتارية المجلس الأعلى للتعليم. وبعد انتقاله إلى وزارة التعليم العالي، عمل ملحقاً ثقافياً للشؤون الإعلامية بالسفارة السعودية في بيروت لمدة 12 عاما أشرف خلالها على نشرة الملحقية الشهرية. وبسبب الحرب الأهلية في لبنان، انتقل إلى العمل بالسفارة السعودية في القاهرة حيث أمضى 13 عاما من حياته.
وأثناء كل هذه التنقلات الوظيفية في حياته لم يكف البواردي عن الإسهام بالكتابة في مجموعة من الصحف والمجلات مثل: اليمامة، الجزيرة، اليوم، المسائية، قريش، الأضواء، الرائد، الفيصل، المعرفة الجديدة، المجلة العربية، الحرس الوطني، المنهل، أهلاً وسهلاً، وغيرها. كما لم يتوقف عن كتابة الشعر والنقد والمقال من خلال زوايا صحفية ممهورة بختمه. إلى ذلك راح يرفد المكتبة العربية بالكتب والمؤلفات. فقد أصدر حتى الآن 46 كتابا في القصة والنقد والشعر الشعبي حيث «الكتابة عند البواردي نتيجة طبيعية للقراءة الواسعة والمستمرة، التي جعلته يقتني أكثر من 2000 كتاب؛ كوّنت مكتبته الخاصة في منزله بالرياض، وبعد أن فقدها كلها أثناء انتدابه للعمل في لبنان؛ واصل البواردي هوايته في جمع الكتب لتتشكّل مكتبته الثانية التي تزيد على 3000 كتاب. وامتثالاً لتعليمات بلاده آنذاك القاضية بمغادرة بيروت بسبب الحرب الأهلية، فقد مكتبته الثانية، ويملك البواردي حالياً مكتبته الثالثة، التي جمع معظم محتوياتها خلال عمله في القاهرة»(المصدر/ صحيفة مكة: 17/2/2014). الذين تناولوا أعماله الشعرية، التي بدأت بعد عوته إلى شقراء، مفصولا من الدراسة بمدرسة دار التوحيد بالطائف عام 1368 للهجرة، مثل الكاتب بهاء الدين رمضان السيد الذي نشر حوارا معه في مجلة الفيصل (العدد 214 لسنة 1994)، شهدوا على تميزها «بجمال الأسلوب وسلاسته وحسن التصوير الفلسفي القائم على خبرات حياتية ووجدانية».
والحقيقة أن ما قاد البواردي ابتداء إلى حظيرة الأدب، ليس الشعر وإنما القصة. فعندما كان يافعا أعلنت صحيفة البلاد في أوائل الستينات عن مسابقة للقصة القصيرة، ورغم صغر سنه، ومحدودية ثقافته في ذلك الوقت، فقد دخل المسابقة بقصة لا يتجاوز طولها الصفحات الثلاث، وكان عنوان القصة (على قارعة الطريق)، وقد فاز سعد بالجائزة الثالثة لهذه المسابقة (الاشتراك المجاني في الصحيفة لمدة عام)، ولا شك أن هذا الفوز كان نقطة تحول في حياته الأدبية، طبقا لما قاله الدكتور محمد الهدلق في ندوة تكريمه خلال مهرجان الجنادرية 29. وقد وصف البواردي مشاعره وقتذاك فقال، طبقا لما نقله عنه القشعمي في صحيفة عكاظ (23/1/2013): «كانت أشبه بالحلم الجميل البعيد المنال.. يومها وقد تناهى إليّ خبر الفوز بالجائزة الأخيرة للقصة في صحيفة البلاد عام 1368.. أنني أواجه اختبارا صعبا.. أحسستُ أن فتحة صغيرة في بوابة الحلم بدأت ملامحها تبدو.. شعرتُ برعشة فرح لذيذ.. ما برح يخالجني ويفاجئني حتى هذه اللحظة». أخبرنا القشعمي (المصدر السابق) أن أول مشاركة صحفية عثر عليها للبواردي كانت بمجلة اليمامة (عدد أكتوبر 1954)، وكانت عبارة عن مقال بعنوان «صخور الحياة» قال فيه: «الحياة كتل من الصخور ينفجر بينها الماء الزلال الذي يرده أبناء الحياة فمنهم من يناله هنيئا مريئا ومنهم من يناله ممزوجا بالدماء ومن لا ينال إلا التحطيم بين الصخور، وهذه الصخور ألوان وأشكال»، ثم راح يعددها. وفي عدد يناير 1955 كتب مقالا آخر بعنوان «حطام» قال فيه: «إنه على صخرة (اللامساواة) شحوب بارز يغمر وجهه، ارتعاشة مضطربة تكسو شفتيه، دموع تنحدر من عينيه، سألته عن سره، عن أمره، قال لي في لوعة حائرة: (إنني مشرد)، وجوم رهيب يطبق على قلبه، حسرة مريرة تطل من ناظريه، ابتسامة صفراء تنطق باللوعة والحرمان.. سألته عن سره، عن أمره، قال لي في لهجة متعثرة: (إنني طريد) وبالقرب كان يجثم طود منيع من البناء، نوافذ زجاجية ولكن لا تدخلها شمس الحياة، حدود مترامية ولكن لا مكان فيها لحي. أشار بيديه المرتعشتين إلى العملاق المنتصب فوقه وقال: (أنا المشرد المبعد الطريد)».
وأضاف القشعمي أن أول قصيدة وجدها منشورة للبواردي في الصحافة كانت بجريدة البلاد السعودية (18/8/1955) تحت عنوان «مناجاة قلب»، ومن أبياتها:
أوجعت يا قلبي زمانك بالبكاء المر الطويل
وغدوت تهمى بالدماء وحسينا منك العويل
وقضيت في سجف الليالي زهرة العمر الجميل
وكأنما نور الحياة أمام وجهك مستحيل
لم يا فؤادي كل هذا، هل خلقت بلا أمل؟
أقلقت في ركن الظلام سباعه المتأثرة
فغدت تخافك كالشقا وتهاب صوتك صاغرة
وكأنما خلقت حظوظا حول صوتك عاثرة
راحت تردد «يا إلهي هل له من آخرة»
وأستاذنا القشعمي هو أيضا من أرجع نبوغ البواردي وحماسه وتمرده أحيانا - خلال حديثه عنه في حفل تكريمه بمهرجان الجنادرية 29 - إلى جملة من العوامل مثل: تنقلاته في صغره بين شقراء وعنيزة والطائف، وما رافقها من احتكاك بمجتمعات مختلفة؛ وزياراته لمكة وجدة حيث اطلع مبكرا على الحركة الصحفية في الحجاز وما كان يصلها من مطبوعات من الخارج؛ واحتكاكه بالحجاج والمعتمرين خلال فترة دراسته بالطائف في وقت كانت فيه المعارك محتدمة بين العرب والصهاينة في فلسطين وموجة المطالبة بالاستقلال مستعرة. أما الراحل الكبير الدكتور عبدالرحمن صالح الشبيلي فقد قال في المناسبة ذاتها: "الأديب سعد البواردي وطني منصف لا يصبر على الخطأ، وقد تأثر كثيرا من العلامة حمد الجاسر بسبب العلاقة التي كانت تجمعهم، وحافظ على نهجه ومجلسه وتعلم منه، وسار التلميذ على خطى شيخه الجاسر في العلم، وفي الزواج المتأخر بسبب انشغاله بالمعرفة".
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين
حينما يتوغل المرء في سيرة البواردي يكتشف بسهولة أن التكريم كان مستحقا، وأنّ الوسام الرفيع كان بمثابة إعادة اعتبار للرجل الذي ظلم في بدايات حياته حينما دخل بلاط صاحب الجلالة بحماس الشباب وعنفوانه، ناقدا ما حوله في زمن إقليمي مضطرب لم يكن النقد الحاد فيه ملائما أو مستحبا. والحقيقة أنه لا يمكن لمن يريد التأريخ لإرهاصات الحركة الصحفية في السعودية عموما، وفي منطقتها الشرقية خصوصا أن يتجاوز اسم البواردي أو أن يقلل من قيمة إسهاماته. فلئن كان يوسف الشيخ يعقوب وأخوه أحمد (ولدا قاضي الجبيل الأسبق ومدير أولى مدارسها الشيخ يعقوب بن الشيخ يوسف آل إبراهيم البصري التميمي رحمه الله) هما من تصديا لفكرة إطلاق أول جريدة من مدينة الدمام في مارس 1955، واختارا لها اسم «الفجر الجديد» اتساقا مع ما كان يعتمل في النفوس آنذاك من بدء حقبة النهضة والبناء - من بعد حقبة التوحيد - على يد العاهل الجديد المغفور له الملك سعود رحمه الله، فإن أحد الأسماء التي داومت على الكتابة في هذه المطبوعة، من خلال تزويدها بالقصائد الوطنية الحماسية، منذ عددها الأول وحتى عددها الرابع الذي طبع ولم يوزع جراء إيقافها من قبل السلطات المعنية لنبرتها الحادة وصراحتها غير المألوفة في تناول الشأن الداخلي، هو سعد البواردي الذي لم تقل آلامه عن أحزان وجراح الأخوين يعقوب وقد انهار حلمهما، بل ودخلا المعتقل أيضا.
بعد ما حلّ بـ «الفجر الجديد» قام البواردي بتشجيع من يوسف الشيخ يعقوب بتحقيق فكرة إطلاق مجلة ثقافية شهرية من الخبر. كان البواردي يعمل وقتذاك موظفا في قسم قطع غيار السيارات لدى شركة عبداللطيف علي العيسى بالخبر، وليست لديه دراية كافية بإدارة مجلة من هذا النوع، وإنْ كان مطلعا ويهوى الكتابة الصحفية ونظم الشعر، كما لم تكن لديه الأموال الكافية والكوادر المدربة للاضطلاع بهذه المهمة الشاقة. لكنه بعد تفكير طويل مشوب بالحيرة والتساؤلات، وبعد أن هرش رأسه أكثر من مرة، وعقد الخنصر والبنصر، توكل على الله ووافق على الفكرة لأن «عالمنا العربي كان يعيش حالة مخاض سياسي، وتحولات تاريخية. كانت الأجواء مشحونة ملتهبة. صراع حاد بين الاحتلال والاستقلال في أكثر من مكان. وكان الصوت مرتفعاً ولاسعاً على مستوى عالمنا العربي ونحن جزء منه نتفاعل مع قضاياه وأحداثه»، على حد قوله في خطاب أرسله من القاهرة إلى أستاذنا محمد عبدالرزاق القشعمي، ونشر الأخير نصه في مجلة الواحة (العدد 60، سنة 2010) تحت عنوان «سعد البواردي ومجلة الإشعاع».
وهكذا تقدم إلى السلطات بطلب الحصول على ترخيص لإصدار المجلة المذكورة تحت عنوان «الاشعاع»، فجاءته الموافقة سريعا، وهو من جانبه تدبر أموره بسرعة، حيث راح ينفق على المجلة نصف راتبه الضئيل، وتولى كل مهامها بمفرده. وعليه صدر العدد الأول من مجلة الاشعاع في حجم صغير (48 صفحة) وطباعة متواضعة لدى المطابع السعودية بالدمام لصاحبها الأديب الشاعر خالد الفرج الدوسري، وعدد قليل من المقالات التي آثر أصحابها الترميز لأسمائهم (مثل س. ب، أبو سمير، أبو نازك، فتى الوشم، الخ الخ) بدلا من التصريح بها. لكن الوضع راح يتحسن رويدا رويدا حجما ومقاسا، بل راح لسان المجلة يكثر من اللسع الذي جعل البعض يتصيد لتجاوزاتها ويبلغها لولاة الأمر.
استقطبتْ مجلة «الاشعاع» بعد صدورها الكثير من الكتاب من مختلف أنحاء المملكة (الشاعر الأمير عبدالله الفيصل والشاعر المجدد محمد حسن عواد، وإبراهيم العواجي وصالح الصالح ومحمد المسيطير مثلا)، وفتحت أبوابها للمبتدئين من الأقلام الشابة. لكن تم إيقافها بعد عددها الثالث والعشرين في مايو 1957، وكانت وقتها قد أكملت السنتين ودلفت إلى الثالثة. حول المتسبب في إيقافها كتبت صحيفة الاقتصادية (1/5/2009) على لسان البواردي: «صديق وزميل يعمل في حقل الأدب (المرحوم الشيخ عبدالرحمن القويز) كان السبب.. صاحبنا حمل العدد الثالث والعشرين من مجلة «الاشعاع» الصادر في شهر ذي القعدة عام 1376هـ إلى المرحوم الأمير عبدالله بن عبدالرحمن واضعا إصبعه على الدمل، كما يعتقد، قائلا لسموه (انظر ماذا يقول سعد البواردي عن.. وعن...). وهنا ثارت ثائرة سموه وفي حضرة من المرحوم الملك سعود توسعت دائرة الإشكال والسؤال والمساءلة. في الهجيع الأخير من الليل كان الطارق على الباب، وكانت الضيافة، التي أشهد أنها كريم تعاملها وتداولها باستثناء أسبوعها الأول الذي كنت فيه أناجي السقف والنوافذ الموصدة والأرض العارية. شهران وبضعة أيام. كان أمامي الخيار الصعب، أن أظل داخل ضيافتي أو أن أعود إلى مسقط رأسي لمدة عام جزاء لي على سلاطة اللسان وردعا لأمثالي...».
وهكذا خيّر الرجل بين أنْ يبقى في السجن يناجي الأبواب الموصدة أو أن يذهب إلى مسقط رأسه في مدينة شقراء النجدية تحت الإقامة الجبرية لمدة سنة، فاختار الخيار الثاني، تاركا مجلة «الاشعاع» خلف ظهره، ذكرى تجترها الأجيال عن بدايات الصحافة في شرق السعودية، وواصفا إياها بأنها «لفظت أنفاسها حين عاندت، فعانت من عنادها ما تستحق».
ولد سعد البواردي في عام 1920م بمدينة شقراء حاضرة إقليم الوشم، ابنا لأمير المدينة وأحد شعرائها المعروفين، عبدالرحمن بن محمد البواردي، المنحدر من عشيرة البواريد من قبيلة بني زيد التي تعود إلى قبيلة عبيدة من مذحج من كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وكان والده معروفا بالكرم على عادة أهل شقراء الذين قال عنهم الرحالة أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب (الجزء الثاني ص 116): «هم على كرمهم ودماثة أخلاقهم متواضعون، ينحرون لك، ويمدون سماطاً ملكياً، ثم يقولون: ما عندنا في نجد غير فاكهتين الماء البارد في القيظ والنار في الشتاء». تلقى دراسته الابتدائية في مدارس عنيزة وشقراء، ثم التحق بمدرسة دار التوحيد (الإعدادية) بالطائف التي فصلته بعد أن أكمل بها سنتين من الدراسة، انقطع بعدهما عن التعليم، ليخوض مبكرا معركة الحياة العملية والتثقيف الذاتي. وبهذا نستطيع أن نقول إن الرجل لم يبحث قط عن الشهادة بقدر ما بحث عن العلم والمعرفة، بدليل أنه لا يجد غضاضة في القول بأنه لا يحمل إلا ثلاث شهادات هي: شهادة الميلاد، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وشهادة المرحلة الابتدائية، وأنه مجرد طالب مبتدئ في مدرسة الحياة. كما أنه لم يبحث قط عن الجاه والوجاهة بقدر ما بحث عن الصدارة في ميدان الأدب والفكر، وآية ذلك أن ظروف الحياة تقلبت به وحملته مسؤوليات أكبر من سنه حينما توفي والده واضطر أن يحل مكانه كمعيل للأسرة، وهو ما جعله يمتهن مهنا مختلفة ويتنقل من مدينة إلى أخرى. فقد عمل بائعا للبطيخ في إحدى الفترات، ثم انتقل من نجد إلى الأحساء حيث اشتغل كعامل ميزان فإلى الخبر التي عمل بها موظفا في أحد مكاتب التجار ثم بائعا لقطع غيار السيارات لدى شركة العيسى، قبل أن يدخل ميدان الصحافة من «نافذة الصدفة». نعم من «نافذة الصدفة» طبقا لشهادته التي نشرها أستاذنا محمد عبدالرزاق القشعمي في كتابه «البدايات الصحفية في المملكة العربية السعودية» (منشورات مركز حمد الجاسر الثقافي/ الرياض/1900) والتي جاء فيها: «أعترف بادئ ذي بدء أنني ولجت إلى دار الكلمة والحرف من النافذة، ولعلها الصدفة المحضة. لم أكن يومها مهيأ نفسيا ولا عمليا أن أتعامل معها. كنت أسير أسرة قطع غيار السيارات لدى الشيخ الكريم عبداللطيف العيسى في مدينة الخبر. كان هذا هو قدري ومحطتي في كسب العيش والرزق. كانت مفرداتي أسرتي الوظيفية لا تتجاوز حدود (الكاربريتر والراديتر، الدينمو، الديلكو، البواجي، البوبينة، الشكمان، والدواليب».
لكن ماذا حلّ بالبواردي بعد نفيه من الخبر إلى شقراء؟
اضطر الرجل أن ينفذ العقاب الصادر بحقه بالبقاء إجباريا في شقراء لمدة سنة. بعدها ذهب إلى الرياض بحثا عن وظيفة يقتات منها، فعثر على وظيفة بوزارة المعارف. وبسبب خبرته الصحفية أوكلت إليه عملية الإشراف على «مجلة المعرفة» الفصلية الصادرة عن الوزارة. بعد ذلك عمل مديرا لإدارة العلاقات العامة بوزارة المعارف، ثم تولى سكرتارية المجلس الأعلى للتعليم. وبعد انتقاله إلى وزارة التعليم العالي، عمل ملحقاً ثقافياً للشؤون الإعلامية بالسفارة السعودية في بيروت لمدة 12 عاما أشرف خلالها على نشرة الملحقية الشهرية. وبسبب الحرب الأهلية في لبنان، انتقل إلى العمل بالسفارة السعودية في القاهرة حيث أمضى 13 عاما من حياته.
وأثناء كل هذه التنقلات الوظيفية في حياته لم يكف البواردي عن الإسهام بالكتابة في مجموعة من الصحف والمجلات مثل: اليمامة، الجزيرة، اليوم، المسائية، قريش، الأضواء، الرائد، الفيصل، المعرفة الجديدة، المجلة العربية، الحرس الوطني، المنهل، أهلاً وسهلاً، وغيرها. كما لم يتوقف عن كتابة الشعر والنقد والمقال من خلال زوايا صحفية ممهورة بختمه. إلى ذلك راح يرفد المكتبة العربية بالكتب والمؤلفات. فقد أصدر حتى الآن 46 كتابا في القصة والنقد والشعر الشعبي حيث «الكتابة عند البواردي نتيجة طبيعية للقراءة الواسعة والمستمرة، التي جعلته يقتني أكثر من 2000 كتاب؛ كوّنت مكتبته الخاصة في منزله بالرياض، وبعد أن فقدها كلها أثناء انتدابه للعمل في لبنان؛ واصل البواردي هوايته في جمع الكتب لتتشكّل مكتبته الثانية التي تزيد على 3000 كتاب. وامتثالاً لتعليمات بلاده آنذاك القاضية بمغادرة بيروت بسبب الحرب الأهلية، فقد مكتبته الثانية، ويملك البواردي حالياً مكتبته الثالثة، التي جمع معظم محتوياتها خلال عمله في القاهرة»(المصدر/ صحيفة مكة: 17/2/2014). الذين تناولوا أعماله الشعرية، التي بدأت بعد عوته إلى شقراء، مفصولا من الدراسة بمدرسة دار التوحيد بالطائف عام 1368 للهجرة، مثل الكاتب بهاء الدين رمضان السيد الذي نشر حوارا معه في مجلة الفيصل (العدد 214 لسنة 1994)، شهدوا على تميزها «بجمال الأسلوب وسلاسته وحسن التصوير الفلسفي القائم على خبرات حياتية ووجدانية».
والحقيقة أن ما قاد البواردي ابتداء إلى حظيرة الأدب، ليس الشعر وإنما القصة. فعندما كان يافعا أعلنت صحيفة البلاد في أوائل الستينات عن مسابقة للقصة القصيرة، ورغم صغر سنه، ومحدودية ثقافته في ذلك الوقت، فقد دخل المسابقة بقصة لا يتجاوز طولها الصفحات الثلاث، وكان عنوان القصة (على قارعة الطريق)، وقد فاز سعد بالجائزة الثالثة لهذه المسابقة (الاشتراك المجاني في الصحيفة لمدة عام)، ولا شك أن هذا الفوز كان نقطة تحول في حياته الأدبية، طبقا لما قاله الدكتور محمد الهدلق في ندوة تكريمه خلال مهرجان الجنادرية 29. وقد وصف البواردي مشاعره وقتذاك فقال، طبقا لما نقله عنه القشعمي في صحيفة عكاظ (23/1/2013): «كانت أشبه بالحلم الجميل البعيد المنال.. يومها وقد تناهى إليّ خبر الفوز بالجائزة الأخيرة للقصة في صحيفة البلاد عام 1368.. أنني أواجه اختبارا صعبا.. أحسستُ أن فتحة صغيرة في بوابة الحلم بدأت ملامحها تبدو.. شعرتُ برعشة فرح لذيذ.. ما برح يخالجني ويفاجئني حتى هذه اللحظة». أخبرنا القشعمي (المصدر السابق) أن أول مشاركة صحفية عثر عليها للبواردي كانت بمجلة اليمامة (عدد أكتوبر 1954)، وكانت عبارة عن مقال بعنوان «صخور الحياة» قال فيه: «الحياة كتل من الصخور ينفجر بينها الماء الزلال الذي يرده أبناء الحياة فمنهم من يناله هنيئا مريئا ومنهم من يناله ممزوجا بالدماء ومن لا ينال إلا التحطيم بين الصخور، وهذه الصخور ألوان وأشكال»، ثم راح يعددها. وفي عدد يناير 1955 كتب مقالا آخر بعنوان «حطام» قال فيه: «إنه على صخرة (اللامساواة) شحوب بارز يغمر وجهه، ارتعاشة مضطربة تكسو شفتيه، دموع تنحدر من عينيه، سألته عن سره، عن أمره، قال لي في لوعة حائرة: (إنني مشرد)، وجوم رهيب يطبق على قلبه، حسرة مريرة تطل من ناظريه، ابتسامة صفراء تنطق باللوعة والحرمان.. سألته عن سره، عن أمره، قال لي في لهجة متعثرة: (إنني طريد) وبالقرب كان يجثم طود منيع من البناء، نوافذ زجاجية ولكن لا تدخلها شمس الحياة، حدود مترامية ولكن لا مكان فيها لحي. أشار بيديه المرتعشتين إلى العملاق المنتصب فوقه وقال: (أنا المشرد المبعد الطريد)».
وأضاف القشعمي أن أول قصيدة وجدها منشورة للبواردي في الصحافة كانت بجريدة البلاد السعودية (18/8/1955) تحت عنوان «مناجاة قلب»، ومن أبياتها:
أوجعت يا قلبي زمانك بالبكاء المر الطويل
وغدوت تهمى بالدماء وحسينا منك العويل
وقضيت في سجف الليالي زهرة العمر الجميل
وكأنما نور الحياة أمام وجهك مستحيل
لم يا فؤادي كل هذا، هل خلقت بلا أمل؟
أقلقت في ركن الظلام سباعه المتأثرة
فغدت تخافك كالشقا وتهاب صوتك صاغرة
وكأنما خلقت حظوظا حول صوتك عاثرة
راحت تردد «يا إلهي هل له من آخرة»
وأستاذنا القشعمي هو أيضا من أرجع نبوغ البواردي وحماسه وتمرده أحيانا - خلال حديثه عنه في حفل تكريمه بمهرجان الجنادرية 29 - إلى جملة من العوامل مثل: تنقلاته في صغره بين شقراء وعنيزة والطائف، وما رافقها من احتكاك بمجتمعات مختلفة؛ وزياراته لمكة وجدة حيث اطلع مبكرا على الحركة الصحفية في الحجاز وما كان يصلها من مطبوعات من الخارج؛ واحتكاكه بالحجاج والمعتمرين خلال فترة دراسته بالطائف في وقت كانت فيه المعارك محتدمة بين العرب والصهاينة في فلسطين وموجة المطالبة بالاستقلال مستعرة. أما الراحل الكبير الدكتور عبدالرحمن صالح الشبيلي فقد قال في المناسبة ذاتها: "الأديب سعد البواردي وطني منصف لا يصبر على الخطأ، وقد تأثر كثيرا من العلامة حمد الجاسر بسبب العلاقة التي كانت تجمعهم، وحافظ على نهجه ومجلسه وتعلم منه، وسار التلميذ على خطى شيخه الجاسر في العلم، وفي الزواج المتأخر بسبب انشغاله بالمعرفة".
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين